المُصالحة الفلسطينية وقرار “الضم”.. ماذا بعد؟

قد يكون من السذاجة الاعتقاد بأن أبواب المصالحة المؤصدة قد تم فتحها فجأة، عبر لقاء تلفزيوني مشترك بين الحركتين، إلا أنه وأمام حجم التحديات، فمن المأمول – بل ومن الواجب – أن تتوافق فصائل العمل الوطني على خطة شاملة لمواجهة مشروع الضم، عنوانها: تجاوز الخلافات البينية، وتأجيل الملفات المُعقدة، والعمل لبلورة استراتيجية واضحة لمواجهة المخططات المعادية

في خضم المساعي الإسرائيلية المتسارعة لقضم ما تبقى من الأرض والحقوق الفلسطينية، والتي كان آخرها مشروع “الضم” لقرابة 30% من مساحة الضفة الغربية والأغوار الفلسطينية، وما سبقه من إعلان صفقة “القرن” الأمريكية، واعتراف الولايات المتحدة بالقدس عاصمة لإسرائيل؛ ووسط محيطٍ عربيٍ وإسلاميّ غارقٍ في مستنقع الاقتتال الداخلي من جهة، وحُمّى التطبيع مع إسرائيل من جهة أخرى، باتت خيارات الفلسطينيين محدودةً في مواجهة قطار التغوّل الإسرائيلي المُحصّن بدعم أمريكي غير مسبوق، وعجز دولي واضح.

لم يتبقّ أمام الفلسطينيين، الذين توحّدوا – إعلامياً وميدانياً على الأقل– في رفض صفقة القرن ومشروع الضمّ، سوى الانكفاء إلى البيت الداخلي، ومحاولة إعادة ترتيب صفوفهم؛ علّهم يفلحوا، هذه المرّة، في ترجمة التوحّد الإعلامي إلى وحدة وطنية حقيقية.

**اتفاق “إجباري”؟

ولعلّ أبرز ما يعترض مسار الوحدة المفترضة، ويُعيق إنجازها طوال عقدٍ ونصف من الزمان، بعد اتفاقات عديدة مُنيت جميعاً بالفشل، هو انتفاء وجود مؤشرات على تنحي المُسببات الرئيسة للانقسام، وفي مقدمتها: تنافر البرامج السياسية للفريقين الأكبر على الساحة الفلسطينية (حركتا حماس وفتح)، فما زالت الأخيرة تتمسك بالمفاوضات، وحلّ الدولتين، الذي يدق مشروعُ “الضم” المسمارَ الأخير في نعشه؛ في حين لا يبدو أن حركة حماس تنوي التخلي عن برنامج المقاومة بكافة أشكالها – وعلى رأسها المُسلّحة-.

إلا أن ثمّة حاجة مُشتركة لاتفاق “إجباري” إن صح التعبير، تفرضه تعقيدات الواقع على الفريقين، قد يتطور فيما بعد ليشكل نواة المصالحة المنشودة.

فالسلطة الفلسطينية التي ضاقت ذرعاً بالسلوك السياسي لبنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي تجاه عملية التسوية، وخابت أمنياتها – حتى الآن – في تنحيته عن عرش إدارة صنع القرار في إسرائيل، بعد الاتفاق الأخير الذي منحه ولاية جديدة على رأس الحكومة، ترى في التقارب من “حماس” حجراً جديداً تُلقي به على شجرة اللعبة السياسية، لتصطاد به أكثر من عصفور في آن واحد.

فمن ناحية، يمكن للسلطة البرهنة للشارع الفلسطيني على جدّية خطابها السياسي المُعلن منذ إقرار صفقة القرن الأمريكية، المتمثل في التلويح بالإقدام على التحلّل من جميع الاتفاقات المُبرمة مع إسرائيل، وعلى رأسها اتفاق “أوسلو” وملحقاته الأمنية على وجه الخصوص، تنفيذاً لتوصيات المجلسين: الوطني والمركزي لمنظمة التحرير، المنعقدين مؤخراً، إلى جانب تفعيل النضال الشعبي المشترك مع باقي القوى والفصائل الفلسطينية ضد صفقة القرن وقرار الضم.

ومن ناحية أخرى تستطيع السلطة الفلسطينية المناورة بإمكانية التجرؤ على كسر الفيتو الأمريكي – الإسرائيلي على عقد مصالحة حقيقية مع حركة حماس، يعمل الجانبان جاهدَين لمنع تحقيقها.

وعلى الجانب الآخر، تسعى حركة حماس من وراء أيّ اتفاق مرتقب، إلى التخفيف عن كاهلها من أعباء حكم ما يربو عن مليوني إنسان يقبعون في أكبر سجن في العالم منذ قرابة 14 عاماً، يلازم الفقر والبطالة أزيد من 40% من سكانه، وهي التي حِيل بينها وبين الجمع ما بين ممارسة المقاومة وتحمل أعباء الحكم.

كما أن حركة حماس تريد، من وراء المصالحة، جرّ السلطة الفلسطينية لساحة المقاومة الشعبية في الضفة، والتخفيف من الوطأة الأمنية الغليظة على عناصرها هناك؛ لتتمكن من استجماع قواها وإعادة ترتيب صفوفها، تحضيراً لموجة مواجهة جديدة مع إسرائيل في الخاصرة الرخوة لديه، سيما بعد عجز غزة عن التكفّل – وحدها – بتحمّل تبعات المواجهة، على الرغم مما تُراكمه الحركة في القطاع من قوة عسكرية أضحت لا يُستهان بها.

**خطوات يُبنى عليها

شكّل المؤتمر الافتراضي المشترك، مؤخرا، لشخصيتين من الصف الأول بوزن صالح العاروري نائب رئيس حركة حماس، وجبريل الرجوب عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، نقطة مهمّة يُمكن البناء عليها، خاصة ما أبدياه القياديان من روحٍ إيجابية، وخطاب وحدوي، حظي بمباركة سائر الفصائل الفلسطينية، والمواقف المتقاربة ضد قرار الضمّ الإسرائيلي وصفقة القرن الأمريكية، والاستعداد للعمل المشترك من لإفشالهما، ما قد يُشجع على التفاؤل “الحذر” في إمكانية تبني رؤية وطنية جامعة، وتحقيق مصالحة بناء على ذلك.

**ما الجديد هذه المرة؟

قد يكون من السذاجة الاعتقاد بأن أبواب المصالحة المؤصدة قد تم فتحها فجأة، عبر لقاء تلفزيوني مشترك بين الحركتين، فقد سبقت هذا اللقاء عشرات اللقاءات والاجتماعات التي جابت العواصم العربية وحتى العالمية على مدار سنوات الانقسام، اعترى الفشل مصيرها جميعاً، إلا أنه وأمام حجم التحديات، والخطر الذي يُهدد بعاصفةٍ لا تُبقي ولا تذر، وتصفيةٍ نهائيةٍ للقضية الفلسطينية، فمن المأمول – بل ومن الواجب – أن تتوافق فصائل العمل الوطني على خطة شاملة لمواجهة مشروع الضم، عنوانها: تجاوز الخلافات البينية، وتأجيل الملفات المُعقدة، والعمل لبلورة استراتيجية واضحة لمواجهة المخططات المعادية.

ومن أهمّ الأفكار التي يُمكن التقاطها من مؤتمر “العاروري – الرجوب”، ثم لقاء “بدران – حلس” على شاشة تلفزيون فلسطين الرسمي بعدها بأيام، هو إجماع الطرفين على ضرورة تفعيل “الوحدة الميدانية”، التي يمكنها – في حال تفعيلها بالشكل المطلوب – جرّ جميع الأطراف نحو انتفاضة شعبية شاملة تُربك حسابات المشهد، وتبعثر أوراق اللعبة في وجه واشنطن وتل أبيب، على غرار ما حدث إبّان انتفاضة الأقصى في سبتمبر/ أيلول لعام 2000، حين سبق الفعلُ الشعبي الجماهيري مواقفَ قيادة السلطة والفصائل.

**دور الأطراف الإقليمية

وأمام هذا المشهد، ينبغي استحضار دور الأطراف الإقليمية ذات التأثير في القضية الفلسطينية وعناصرها، وفي مقدمة هذه الأطراف: مصر، تركيا، وقطر، التي يمكنها لعب أدوار إيجابية في دفع عجلة المصالحة الفلسطينية، على الرغم من حالة العداء القائمة بين النظام السياسي المصري ونظيريه القطري والتركي، إلا أن السنوات السابقة أثبتت أن كل طرف يملك هامشاً للتحرك في وساطاتٍ هنا وهناك كلما دعت الحاجة محلياً أو دولياً.

وفي هذا السياق، تتجلّى المواقف والتحركات الأخيرة لقيادات تلك الدول، ومنها إعلان مُتحدث الرئاسة التركية “إبراهيم قالن” دعم بلاده لتحركات الفلسطينيين بروح الوحدة الوطنية ضد خطة الضم الإسرائيلية، واللقاء الذي جمع مؤخراً رئيس حركة حماس “إسماعيل هنية” بنائب رئيس الوزراء وزير الخارجية القطري “محمد بن عبد الرحمن آل ثاني” في الدوحة لبحث آخر تطورات القضية الفلسطينية، بالإضافة للدور المصري المتواصل في هذا السياق.

ومع أن هذه الأدوار تبقى ملعوبةً في إطار سياقات خاصة ومدروسة، إما في سبيل إنجاز وحدة فلسطينية باعتبارها ضرورة مُلحّة لتجاوز منعطفات القضية، وإما لممارسة ضغوط على الصعيد الدولي؛ من أجل فرض معادلات خاصة، أو إملاءات ضاغطة لتمرير مصالح مُعينة، إلا أنه يمكن استثمار نقاط القوة لدى كل طرف منها من أجل تحقيق وحدةٍ فلسطينيةٍ باتت أمراً لا مفر منه؛ لتفادي سقوطٍ سحيقٍ يُرى حتمياً.. إذا انعدم في القضية رجلٌ رشيد!.

BY ANADOLU AGENCY