خطاب تاريخي لأردوغان عن “آيا صوفيا” (وثيقة)

ألقى الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، الجمعة، خطابًا تاريخيًا بمناسبة قيام “المحكمة الإدارية العليا”، بإلغاء قرار مجلس الوزراء الصادر عام 1934، والذي قضى بتحويل “آيا صوفيا” في مدينة إسطنبول من مسجد إلى متحف.

وقرار المحكمة يعني إعادة “آيا صوفيا” مجددًا إلى مسجد، ووقع أردوغان بالفعل قرارًا بنقل تبعيته من وزارة الثقافة والسياحة إلى رئاسة الشؤون الدينية، وتحويلها للعبادة.

وفيما يلي نص شبه كامل لكلمة الرئيس أردوغان:

نخطط لافتتاح “آيا صوفيا” للعبادة في 24 يوليو/ تموز الجاري بإقامة صلاة الجمعة في ذلك اليوم، وسيتم إلغاء رسوم الدخول إلى المسجد عقب رفع وضعية المتحف عنه.

لقد قامت “المحكمة الإدارية العليا”، اليوم بإلغاء قرار مجلس الوزراء الصادر عام 1934، والذي قضى بتحويل “آيا صوفيا” في مدينة إسطنبول من مسجد إلى متحف.

في الواقع لم يكن هذا القرار الذي تم اتخاذه خلال فترة الحزب الواحد عام 1934 خيانة للتاريخ فحسب، بل أيضا ضد القانون. لأن “آيا صوفيا” ليست ملكا للدولة ولا أي مؤسسة فهي ملك لوقف السلطان محمد الفاتح.

وبموجب القرار الصادر عن المحكمة عاد المكان ثانية إلى مسجد، نعم بعد 86 عاما سيعود للخدمة كمسجد كما بُيّن في الوقف التابع للسلطان محمد الفاتح، ونأمل أن يجلب قرار إعادته إلى أصله، الخير للأمة الإسلامية والبشرية جمعاء.

ووزارة الثقافة والسياحية التركية، ورئاسة الشؤون الدينية في البلاد باشرتا على الفور بالترتيبات اللازمة في هذا الإطار.

هناك بعض النواقص التي سيتم تلافيها حيث ستقام بعض التحضيرات في غضون ستة أشهر، سننهيها إن شاء الله خلال تلك الفترة، وبالطبع نقوم بتحضيرات، فليأت من شاء من المسلمين وغير المسلمين والعالم المسيحي، عندما يأتون جميعا، سيرون أنه لا وجود للأقاويل المتداولة هنا، بل على العكس سنقدم لهم أفضل نموذج عن كيفية نقل التراث الذي استلمناه من أجدادنا للمستقبل.

ومسجد “آيا صوفيا” سيبقى تراثا مشتركًا للإنسانية ، يفتح أبوابه أمام الجميع من مواطنين وأجانب مسلمين وغير مسلمين، شأنه في ذلك شأن جميع مساجدنا. وسيواصل احتضان الجميع بشكل أكثر صدقا وأصالة. وندعو الجميع إلى احترام القرار الذي اتخذته الهيئات القضائية والتنفيذية في تركيا، وأي موقف يتجاوز التعبير عن الآراء، انتهاك للسيادة.

وحق التصرف بـ”آيا صوفيا” أمر متعلق بسيادة تركيا، ونتقبل جميع وجهات النظر الدولية حول هذه المسألة. نتفهم بالطبع كل الآراء المطروحة على الساحة الدولية بهذا الصدد، إلا أن الغرض الذي سيستخدم فيه المكان متعلق بحقوق السيادة التركية، فافتتاحه للعبادة عبر تعديلات قانونية جديدة هو عبارة عن حق سيادي لبلدنا. وتركيا لا تتدخل بما تفعله الدول الأخرى بأماكن العبادة لديها.

ومن ثم ننتظر من تلك الدول نفس التفهّم حول حفاظ تركيا على حقوقها التاريخية والقانونية. فهذه الحقوق لا تعود لـ 50 أو 100 سنة، وإنما 567 سنة.

وفيما لو أقيم نقاش اليوم يركز على المعتقد، فلا ينبغي أن يكون موضوعها “آيا صوفيا”، وإنما العداء للإسلام وكراهية الأجانب المتصاعدتان يوما بعد يوم حول العالم.

وأجدد تأكيدي على أن القرار يتعلق بقوانيننا الداخلية وحقوقنا التاريخية فقط، وأعرب عن شكري لجميع أفراد الشعب والأحزاب والقادة السياسيين ومنظمات المجتمع المدني لمساندتهم هذا القرار.

ولا شك أنه من حق تركيا تحويل “آيا صوفيا” إلى مسجد بشكل يوافق ما جاء في سند الوقف (الوقفية)، فلتنظروا إلى الصورة التي خلفي، سترون سند وقف ضخم، إنها وقفية السلطان محمد الفاتح، وكل ما تضمه هذه الوقفية أساسٌ لنا.

ولا ننسى أن هناك أكثر من 453 كنيسة وكنيسا في تركيا، وهذا المشهد يعد تجليا لإدراكنا بأن اختلافاتنا تزيدنا ثراء.

ومن المؤكد أن نفس هذه العقلية (التي تعارض مسألة إعادة آيا صوفيا لمسجد) من الممكن أن تتقدم بمقترح لتحويل مسجد السلطان أحمد، درة مساجد إسطنبول إلى متحف، هذه العقلية في الماضي، فكرت في استخدام هذا المسجد (السلطان أحمد) كمعرض للصور، وقصر يلديز (التاريخي بإسطنبول) كدارٍ للقمار، وآيا صوفيا كنادٍ لموسيقى الجاز، حتى أنهم نفذوا بعض هذه الأمور.

ووجهة النظر هذه كعادتها في كل الفترات ما هي إلا مظهر من المفاهيم المناهضة للعصرية التي تنضوي تحت ما يسمى بالحداثة، وما الإصرار على غلق الفاتيكان وتحويله على متحف، والإبقاء على آيا صوفيا كمتحف، إلا نتاج نفس المنطق.

ومن ثم ولا نستغرب إذا ما نادى هؤلاء لاحقًا بتحويل الكعبة التي هي أقدم دار عبادة أو المسجد الأقصى إلى متحف، ونسأل الله تعالى أن يحفظ وطننا والإنسانية من هذه العقلية إلى الأبد، وألا يختبر هذه الأمة ثانية بمن يكنون العداوة لقيمها.

ويعتبر فتح إسطنبول وتحويل “آيا صوفيا” إلى مسجد، من بين أنصع صفحات التاريخ التركي. فبعد حصار طويل يدخل السلطان محمد الفاتح مدينة إسطنبول فاتحا في 29 مايو(أيار 1453)، ويتوجه مباشرة إلى آيا صوفيا. وعندها ساور السكان البيزنطيون الخوف والقلق بانتظار مصيرهم داخل آيا صوفيا، فيعطيهم الفاتح الأمان على حياتهم وحرياتهم.

ثم يدخل (محمد الفاتح) آيا صوفيا، ويغرس رايته كرمز للفتح في المكان الذي يوجد فيه المحراب، ويرمي سهما باتجاه القبة، ويصدح بأول أذان داخله، وهكذا يسجل فتحه، ينتقل بعدها إلى أحد زوايا المعبد فيسجد سجدة شكر ثم يصلي ركعتين، وبتصرفه هذا يكشف عن تحويل آيا صوفيا إلى مسجد. السلطان محمد الفاتح عاين بدقة المعبد الذي يعد لؤلؤة إسطنبول من أرضيته إلى سقفه.

والمؤرخون أوردوا أن السلطان محمد الفاتح تلا بيتين من الشعر عند وقوفه أمام منظر الخراب الذي حل بالصرح قال فيهما “عنكبوت ينسج ستارة في قصر قيصر.. وبومة تحرس في برج أفراسياب”.

نعم، هكذا استلم السلطان محمد الفاتح مدينة إسطنبول وآيا صوفيا، حيث كانتا مدمرتين وخرابتين متداعيتين.

“آيا صوفيا” التي استلمها السلطان محمد الفاتح، كانت قد بنيت للمرة الثالثة على أطلال كنيستين دمرتا وحرقتا خلال فترة الاضطرابات.

ومحمد الفاتح افتتح “آيا صوفيا” للعبادة بعد ثلاثة أيام من فتح المدينة، من خلال جهد مضن بذله ليقيم صلاة الجمعة فيه.

ولما دخل الفاتح دخل المسجد مع جيشه ومسؤولي الدولة صدحت التكبيرات والصلوات في استقباله، وخطب الجمعة في ذلك اليوم، وصلى شيخه “آق شمس الدين” صلاة الجماعة.

وعندما فتح السلطان محمد الفاتح إسطنبول، حصل أيضا على لقب الإمبراطور الروماني، وبالتالي أصبح مالكا للعقارات المسجلة باسم الأسرة البيزنطية، ووفقا لهذا القانون، تم تسجيل آيا صوفيا باسم محمد الفاتح والوقف الذي أسسه، كما صدرت في فترة الجمهورية نسخة رسمية من سند الملكية المعد بالأحرف الجديدة (التي تكتب بها التركية الحالية)، ليسجل وضعه القانوني بشكل رسمي.

ولولا أن آيا صوفيا ملك السلطان محمد الفاتح، لما كان له الحق في تكريس هذا المكان بشكل قانوني، ويقول السلطان محمد الفاتح، في واحدة من مئات صفحاته الوقفية التي يرجع تاريخها إلى 1 يونيو/ حزيران 1453، ما يلي:

“أي شخض قام بتغيير هذه الوقفية التي حولت آيا صوفيا إلى مسجد، أو قام بتبديل إحدى موادها، أو ألغاها أو حتى قام بتعديها، أو سعى لوقف العمل بحكم الوقف الخاص بالمسجد من خلال أي مؤامرة أو تأويل فاسق أو فاسد، أو غير أصله، واعترض على تفريعاته، أو ساعد وأرشد من يقومون بذلك، أو ساهم مع من قاموا بمثل هذه التصرفات بشكل غير قانوني، أو قام بإخراج آيا صوفيا من كونه مسجدًا، أو طالب بأشياء مثل حق الوصاية من خلال أوراق مزورة، أو سجله (المكان) في سجلاته عن طريق الباطل أو أضافه لحسابه كذبًا، أقول في حضوركم جميعًا أنه يكون قد ارتكب أكبر أنواع الحرام واقترف إثمًا.

ومن غيّر هذه الوقفية شخصًا كان أوجماعة، عليه أو عليهم إلى الأبد لعنة الله والنبي والملائكة والحكام وكل المسلمين أجمعين، ونسأل الله ألا يخفف عنهم العذاب، وألا ينظر لوجوههم يوم الحشر، ومن سمع هذا الكلام، وواصل سعيه لتغيير ذلك، سيقع ذنبه على من يسمح له بالتغيير، وعليهم جميعًا عذاب من الله، والله سميع عليم”.

نعم قال السلطان محمد الفاتح ذلك، وبذلك نكون بقرار اليوم قد نجونا من ويلات هذه الدعوات.

ولقد أخذ السلطان محمد الفاتح، على عاتقه حماية الكنيسة الأرثوذكسية التي استبعدت من قبل المذاهب المسيحية الأخرى، وعمل على تطويرها.

وقباب هذا المعبد الكبير، وجدرانه، منذ ذلك اليوم (الفتح) وطوال 481 عاما، كانت موئلاً للأذان والصلوات والتكبيرات والأدعية وختم القرآن والاحتفالات بالمولد النبوي الشريف. ومع فتح إسطنبول كانت آيا صوفيا رمزا له، عندما نهضت على قدميها من جديد بعد أن لحق بها الخراب طوال عصور، جراء الزلازل والحرائق والسرقات والإهمال.

واعتبارا من السلطان محمد الفاتح، سعى كل سلطان عثماني إلى إضفاء مزيد من الجمال على مدينة إسطنبول وعلى “آيا صوفيا” التي عرفت مع مرور الزمن بمسجد المدينة الكبير بعد الإضافات التي ألحقت بها من أطرافها، لتغدو مجمعا يقدم خدماته للمؤمنين عبر العصور.

“آيا صوفيا” شهدت أعمال ترميم وصيانة متكررة، لتبدو بهذا الجمال ولتغدو قرة عين الشعب التركي.

وحتى اسمها الذي يعني ‘حكمة الرب‘ أبقي كما هو ولم يتم تغييره، وكما هو واضح، إنّ أجدادنا لم يكتفوا بتحويل هذا المعبد إلى مسجد بعد أن كانت أطلالا لدولة متداعية آيلة للسقوط، بل أحيوها من جديد وأعلوا من شأنها.

وجدير بالذكر أن لـ”آيا صوفيا” مكانة خاصة في أفئدة الشعب التركي على مر العصور، وثمة محبة خاصة في قلوبنا لآيا صوفيا مذ كنا شبابا، ونحن على ثقة بأننا نقدم خدمة جليلة لشعبنا من خلال فتح أبواب هذا الصرح الثقافي للعبادة وإعادته لهويته من جديد.

وفتح مدينة إسطنبول كانت للشعب ضمن الجهاد الأصغر، والإعمار والإنشاء كانت من الجهاد الأكبر.

وعندما أنشئت آيا صوفيا في عهد ‘روما الشرقية‘ جلبت مستلزمات البناء من أطراف الامبراطورية، من مصر حتى إزمير ومن سوريا وصولا لبالكسير. أما السلاطين بعد الفتح، فجلبوا أرباب الفنون من منطقة الأناضول وروميلي (الأراضي الأوروبية للدولة العثمانية) لإسطنبول من أجل بنائها وإعمار آيا صوفيا من جديد.

والسلاطين العثمانيين عملوا على الاستفادة من الميراث الثقافي الذي ورثوه، وخير مثال على ذلك حفاظ محمد الفاتح على الفسيفساء الموجودة داخل آيا صوفيا.

هذه الفسيفساء بقت على حالها على مدار سنوات طويلة، ثم تم تغطيتها من أجل الحفاظ عليها من العوامل الخارجية، وهذا الفعل يتوافق مع جوهر الدين الإسلامي، وبما أوصى به النبي الكريم عندما طلب من المسلمين، عدم الاعتداء والتخريب عند تبليغ الرسالة.

وعندما دخل سيدنا عمر (بن الخطاب) القدس، كفل حقوق المسيحيين واليهود وحمى أماكن عبادتهم، وعلى نهج الدول التي أسسها الأجداد، سار قادة الدولة العثمانية بعد الفتح ملتزمين بهذا الميراث.

ومن ثم فإن مسجد آيا صوفيا وصل إلى اليوم الحالي بعد مرور 481 عاما محتفظا بمحرابه ومنبره ومآذنه ومقصورته السلطانية ولوحاته ونقوشه وشمعداناته وسجاداته وكافة مرافقه الأخرى.

وعلى مر التاريخ في إسطنبول كان آيا صوفيا أكثر الأماكن اكتظاظا بلقاء الجموع، حيث كان مكانا يتم فيه الاستمتاع بمناظر الجموع الغفيرة حقا خلال أيام استثنائية مثل التراويح وليلة القدر والأعياد، لذا فإن حق الأمة التركية في آيا صوفيا ليس أقل من البناة الأوائل.

ومع فتح إسطنبول تحولت المدينة إلى مدينة سلام يعيش فيها المسلمون والمسيحيون واليهود.

والتاريخ شاهد على الكفاح الكبير الذي أبديناه من أجل إرساء الازدهار والأمن والسلام والتسامح في كل مكان قمنا بفتحه، واليوم، هناك الآلاف من المعابد التاريخية لمختلف الأديان بجانب مساجدنا في كل ركن من أركان بلادنا.

وبالإضافة إلى ذلك، هناك كنائس وكنس في أماكن تجمع منتسبيها، وفي الوقت الراهن، هناك 435 كنيسة وكنيسا مفتوحة للعبادة في بلادنا. هذا المشهد الذي لا يمكننا رؤيته في مناطق جغرافية أخرى يعد تعبيرا عن فهمنا الذي يرى اختلافاتنا على أنها ثروة؛ ومع ذلك، كأمةٍ، لم نتمكن من تجنب الأمثلة المعاكسة حتى في تاريخنا الحديث.

في أوروبا الشرقية ومنطقة البلقان التي اضطر العثمانيون إلى الانسحاب منها، لم يبق إلا عدد قليل من الأعمال التي بناها أجدادنا طيلة قرون، قائمة، وانطلاقا من عبارة لا يمكن أن يكون مثالا، لا نعير أي اعتبار لهذه الأمثال السيئة، حيث نحافظ بحزم على موقف حضارتنا المبنية على التشييد والإحياء.

ومن الجدير بالذكر أن الجدل حول آيا صوفيا يعود تاريخه إلى قرن من الزمن، فخلال أعوام احتلال الأناضول وإسطنبول دار نقاش حول تحويل آيا صوفيا إلى كنيسة، وكخطوة أولى تعكس النوايا، ، حطت وحدة احتلال مجهزة بالعتاد الكامل عند باب آيا صوفيا.

وفي ذلك الوقت قال القائد الفرنسي لهذه الوحدة العسكرية للضابط العثماني حينها إنه يريد التموضع في المكان وأنه على الجنود الأتراك مغادرة المسجد.

لكن الضابط العثماني حينها وهو الرائد توفيق باي، المكلف بحماية آيا صوفيا مع عساكره، قالوا للضباط الفرنسي لا يمكن الدخول إلى هنا ولن تدخلوها، لأن هذا المكان معبدنا، وإن حاولت الدخول عنوة، فإن هذه الأسلحة الثقيلة ستعطيكم الرد الأول، ومن ثم سيأتيك الرد الثاني من مختلف أركان المسجد، وإن كنت واضعا نصب عينيك انهيار آيا صوفيا على رأسك، تفضل وحاول الدخول. ليخيّب برده هذا آمال المحتلين بالاستيلاء على آيا صوفيا.

ومن المعروف أن اهتمام الأجانب بآيا صوفيا استمر في السنوات اللاحقة بمختلف الأعذار من قبيل أعمال ترميم الفسيفساء.

وسبق أن أصدرت الحكومة في فترة الحزب الواحد (في بداية تأسيس الجمهورية التركية) بالبلاد، مرسومًا وضعت فيه قاعدة أن تكون المسافة بين مسجد ومسجد 500 مترا على الأقل، لتغلق “آيا صوفيا” بذلك أمام العبادة.

وبعد فترة، وبتاريخ 1 فبراير/ شباط 1935، تم الإعلان عن تحويل المكان إلى متحف وفتحه أمام الزوار.

وخلال السنوات التي أغلقت فيها آيا صوفيا أمام العبادة تعرض لجور عظيم، لقد قاموا بهدم مدرسة آيا صوفيا، وهي المدرسة التي بناها السلطان محمد الفاتح بجانب البناء، وكانت تعد أول جامعة عثمانية، وذلك دون سبب، ثم قاموا بتقطيع السجاد النادر المفروش في أرضيته، ووزعوها يمنة ويسرة، وأخذوا الشموع العتيقة إلى المسبك ليتم صهرها.

وكذلك اللوحات التي لا تزال في مكانها، وضعوها بالبداية في المستودعات لعدم تمكنهم من إخراجها من الباب بسبب كبر حجمها، وتم تعليقها في مكانها ثانية في وقت لاحق في عهد الحزب الديمقراطي.

الدمار الذي عانت منه آيا صوفيا لا يقتصر على هذا فحسب، فأولئك الذين لا يريدون أن يبقى شيئ من “آيا صوفيا” حينما كان مسجدا، كادوا يهدمون حتى مآذنه، حيث أنه تم تدمير المأذنة الصغيرة لآيا صوفيا التي حولت إلى مسجد في عهد السلطان بايزيد الثاني، بين عشية وضحاها ودون أي سند قانوني.

وعندما رأى المؤرخ والصحفي والموسيقي إبراهيم حقي قونيالي أن الدور قادم على آيا صوفيا، قام بنشر تقرير على الفور قال فيه: إن هذه المآذن تعد الداعم لقبة المسجد، وإذا تم تدمير هذه المآذن فإن آيا صوفيا سيدمر أيضا، وعندها ألغوا التدمير مضطرين.

ولا شك أن هناك العديد من المساجد والمدارس تعرضت لكوارث مماثلة في الفترة نفسها تقريبا.

وقرار إعادة “آيا صوفيا” إلى مسجد يعتبر بعثًا جديدًا له يعيشه المكان، بعد مرات ومرات شهد فيها إحياءً من جديد منذ تاريخ إنشائه.

إعادة إحياء آيا صوفيا، يبشر بحصول المسجد الأقصى على حريته، وهو بمثابة قرع أقدام إرادة خروح المسملين بكافة أنحاء العالم من عصر العزلة، وهذا الإحياء أيضًا هو اشتعال جديد لنيران آمال المظلومين، والضحايا، والمكلومين، والمستعمرين بكافة أنحاء العالم.

كما أن إعادة إحياء آيا صوفيا من جديد بادرة مفادها أن لدينا كأمة تركية، ومسلمين، وإنسانية جمعاء ما نقوله للعالم عن تذكرنا مجددا لكافة فترات تاريخنا بداية من معركة بدر (عام 2 من الهجرة) إلى معركة ملاذكر (1701)، ومن معركة نيقوبوليس (1396) إلى جناق قلعه (1915)، ورمز لإصرارنا على تحمل أمانات شهدائنا، ومحاربينا حتى وإن كلفنا ذلك أرواحنا.

وإحياء آيا صوفيا وبعثه من جديد، ما هو إلا تحية من القلب لكافة المدن التي ترمز لهذه الحضارة (الإسلامية) بداية من بخارى إلى الأندلس. وهذا الإحياء هو ما يقتضيه واجبنا بداية من آلب أرسلان إلى كل من السلطان محمد الفاتح، وعبد الحميد خان.

كما أن هذا الإحياء هو رمز عودة الارتقاء لشمس حضارتنا القائمة على أساس العدالة والضمير والأخلاق والتوحيد والأخوة، تلك الحضارة التي تتنتظرها بشوق الإنسانية جمعاء. وهو تحطيم للسلاسل الكائنة على أبواب هذا المعبد، وللقيود الجاثمة على كل القلوب والأقدام.

وتحول “آيا صوفيا” تلك الأمانة التي تركها لنا الفاتح، إلى مسجد بعد 86 عامًا، ما هو إلا انتفاضة جديدة متأخرة، وهذا المشهد بمثابة أجمل رد على الاعتداءات والهجمات الوقحة التي تستهدف قيمنا الرمزية في كافة أنحاء العالم الإسلامي.

تركيا في كافة الخطوات التي تخطوها خلال الفترات الأخيرة، تكون حريصة على أن تكون هي الفاعل في الزمان والمكان لا العكس.

ومن خلال الكفاح التاريخي الذي خضناه كأمة، نؤسس جسرًا من الماضي إلى المستقبل يحتضن الإنسانية جمعاء، من أجل المستقبل المضيء للحضارة التي نمثلها، وعازمون على السير في هذا الطريق المقدس بكل ثبات وتضحية إن شاء الله دون توقف أو كلل حتى نصل إلى المبتغى.

ولقد حظيت مكانة “آيا صوفيا” بمكانة بين الأدباء والشعراء، إذ سبق للدبلوماسي والشاعر التركي يحيى كمال بياتلي، أن كتب مقالا عام 1922 قال فيه “هذه الدولة لها أساسان معنويان، أولها الأذان من مآذن آيا صوفيا وهي مازالت تصدح، والثانية تلاوة القرآن الكريم أمام الخرقة الشريفة (بردة النبي الكريم بقصر طوب قابي في إسطبنول) وهي مازالت تتلألأ”.

كما أنّ معظم أصحاب الفكر والفنانون، كتبوا في مسألة ما آلت إليه الأمور في آيا صوفيا بحرمانها من العبادة.

ومما كتب في هذا الشأن أشعار كتبها أدباء أتراك تغنوا بآيا صوفيا من خلال جعلها أيقونة لفتح إسطنبول، كالكاتب والشاعر والمفكر التركي نجيب فاضل قصاكورك، عندما قال “من تراودهم المخاوف ببقاء الأتراك في هذا الوطن.. هم أنفسهم الذين تراودهم الشكوك من إعادة فتح آيا صوفيا للعبادة من جديد”.

ومن شعر ناظم حكمت عندما تغنى بفتح إسطنبول قائلاً :” إنه أمجد أيام الإسلام المرتقبة/ غدت إسطنبول الترك، من بعد قسطنطينة الروم/ فتح إسطنبول في ثمانية أسابيع وثلاثة أيام/ سلطان الترك، ممتطيا جواده البري/ وعلى رأس جيش تحدى الدنيا، دخل من باب أدرنة/ طوبى لذلك العبد المبارك لله/ السلطان الذي فتح البلدة الطيبة/ الحق أحلّ علينا أكبر نعمه/ وأقام صلاة العصر في آيا صوفيا”.

كما أن المؤرخ والشاعر القومي التركي نهال أتسيز قال عندما سئل إذا أتيتم للدنيا من جديد ماذا تريدون أن تصبحوا؟ فأجاب “أريد أن أكون إماما لآيا صوفيا”.

كذلك المؤرخ التركي العالمي، خليل أينالجيق، حينما قال إن ‘الغرب لم ينس مطلقًا فتح إسطنبول ولا آيا صوفيا’ كان يقصد أن مسألة آيا صوفيا، والفتح تتجاوز كونها مسألة سياسية.

وفي هذا الصدد أيضًا قال الروائي التركي بيامي إن “تحويل آيا صوفيا إلى متحف، لم تقوض الآمال المسيحية تجاه مدينة إسطنبول، بل على العكس، زادت من جسارتها وحرصها”.

وكذلك ذكر الكاتب التركي عثمان يوكسل سردنغتشيت، مقالة قد تمت محاكمته وإعدامه بسببها تحت عنوان “آيا صوفيا” قال فيها “آيا صوفيا ! أيها المعبد العظيم، لا تقلق سيحطم أحفاد الفاتح كل الأصنام، ويحولونك إلى مسجد، ويتوضأون بدموعهم ويخرون سجدًا بين جدرانك، وسيصدح التهليل والتكبير ثانية بين قبابك، وسيكون هذا الفتح الثاني، وسيكتب الشعراء عنه الملاحم، وسيصدح الآذان من جديد وأصوات التكبير من تلك المآذن الصامتة اليتيمة، وستتوهج شرفات مآذنك بالأنوار تقديسًا لله وشرف نبيه، حتى أن الناس سيظنون أن الفاتح بعث من جديد. كل هذا سيحدث يا آيا صوفيا، والفتح الثاني سيكون بعثًا بعد موت، هذا أمر أكيد لا تقلق، وهذه الأيام باتت قريبة، ربما غدًا أو أقرب من غد”.

والحمد لله أننا وصلنا لما تنبأ به الكاتب، ولا شك أن أفضل ما كتب من شعر عن آيا صوفيا هو للشاعر التركي نهال آسيا.

ومجددًا أتقدم بالتهنئة للجميع بمناسبة هذا الحكم القضائي الذي بموجبه تم تحويل آيا صوفيا لمسجد مجددًل، وأشدد على أننا سنفتتح المسجد للعبادة مع الحفاظ على وصفه ميراثًا ثقافيًا مشتركًا للإنسانية.

BY ANADOLU AGENCY